ستايل لاين
اختُتمت في العاصمة الفرنسية باريس، الأحد، فعاليات أسبوع الموضة للرجال، وسط أجواء حارقة تزامنت مع موجة حرّ شديدة تضرب أوروبا، ما عكس بشكل غير مباشر الضغوط المتزايدة التي تواجهها صناعة الأزياء الفاخرة في ظل تباطؤ اقتصادي عالمي مقلق.
وقد جاءت مجموعات ربيع وصيف 2026 أكثر تحفظًا وواقعية، مع تركيز لافت على المرونة والعملية. فابتعد المصممون عن الاستعراضات المفرطة والشعارات الطنانة، ليقدموا تصاميم دقيقة التفاصيل، موحّدة الألوان، ومتعددة الاستخدامات، تراعي مزاج المستهلك العالمي في زمن يتّسم بعدم اليقين.
ورغم هذا التوجّه نحو البساطة، بقيت معايير تنظيم العروض عند مستوياتها الرفيعة، إذ أقيمت العروض في مواقع باريسية شهيرة، وجذبت حضورًا لافتًا من أبرز النجوم والمشاهير.
ديور: بداية فصل جديد مع أندرسون
في أبرز أحداث الأسبوع، قدّمت دار ديور عرضها الأول بتوقيع المصمم البريطاني جوناثان أندرسون، مؤسس علامة J.W. Anderson، الذي كان قد تنحّى مؤخرًا عن منصبه في “لووي” بعد 11 عامًا أعاد خلالها تشكيل ملامح العلامة.
أُقيم العرض في “قصر الإنفاليد” داخل قاعة مستوحاة من متحف “غيمالد غاليري” في برلين، حيث أحاطت الحضور لوحات فنية من القرن الثامن عشر، لتُضيف إلى العرض بعدًا تاريخيًا راقيًا. وقد جلس في الصفوف الأمامية عدد من نجوم الفن والموضة، من أبرزهم ريانا، سابرينا كاربنتر، دوناتيلا فيرساتشي، والممثل روبرت باتينسون.

إطلالة سابرينا كاربنتر بأسلوب المكتب الأنيق في بدلة تنورة من ديور قبل الظهور الأول لأندرسونCredit: Marc Piasecki/WireImage/Getty Images
بعد انتهاء مرحلة كيم جونز في ديور للأزياء الرجالية، والتي عُرفت بعروضها المسرحية الفخمة وإعادة تشكيل الأناقة الكلاسيكية، افتتح المصمم البريطاني جوناثان أندرسون فصلاً جديدًا في تاريخ الدار، تمثّل بفخامة يومية تنبض بالمرح والابتكار.
تحضيرًا لعرضه الأول، عاد أندرسون إلى أرشيف ديور، مستلهمًا منه ملامح الماضي ليصوغها برؤية معاصرة. فظهر جاكيت “بار” الشهير، الذي يعود تصميمه الأصلي إلى خمسينيات القرن الماضي، بحجم مبالغ فيه، بينما رُصدت في الصفوف الأمامية سابرينا كاربنتر وهي ترتدي نسخة من التنورة والسترة المستوحاة من التصميم ذاته.
كذلك، أعاد أندرسون تقديم بنطال الكارغو بأسلوب جديد يتماوج على نحو يستحضر فستان “ديلفت” من مجموعة ديور لعام 1949، ما أظهر مهارة المزج بين التاريخ والتجريب الفني. ولم تغب الزهور، الرمز الأثير للمؤسس كريستيان ديور وحديقته في غرانفيل، إذ تجلّت في تطريزات دقيقة وظهرت على حقيبة يد استوحت تصميمها من غلاف ديوان “أزهار الشر” (1857) للشاعر الفرنسي شارل بودلير.
لوي فويتون: عرض ضخم بروح هندية
وفي موقع رمزي آخر من العاصمة الفرنسية، أمام مركز بومبيدو للفنون الحديثة، قدّم المصمم والمغني فاريل ويليامز عرضًا لدار “لوي فويتون”، استقطب أنظار الحضور بوصول بيونسيه وجاي-زي تزامنًا مع لحظات الغروب. وبينما طغت الفخامة على العرض، جاءت التشكيلة أكثر هدوءًا مما كان متوقعًا، وإن تخلّلتها إشارات واضحة للتأثير الهندي في الموضة المعاصرة.

تأثير بلاد الهند على مجموعة لويس فويتون الأخيرة في باريسCredit: Courtesy Louis Vuitton
جاء ديكور عرض “لوي فويتون” بتصميم فني مميز من تنفيذ بيجوي جاين، مؤسس “ستوديو مومباي”، مستلهمًا من لعبة “السلالم والثعابين” الهندية التقليدية، لكن بحجم ضخم حول منصة العرض إلى مشهد بصري لافت.
أما التشكيلة فمزجت بين الأناقة والوظيفية، حيث تنوّعت القطع بين المعاطف النيليّة، السراويل القصيرة بلون الخردل، السترات المقاومة للرياح، وأحذية التسلق المزينة بجوارب مرصعة، مما أضفى طابعًا عمليًا بلمسة فاخرة.
وقد بدا العرض وكأنه مشهد سينمائي مستوحى من عالم المخرج ويس أندرسون، خاصة مع الزخارف التي زيّنت بعض السترات، كتحية لحقائب “لوي فويتون” التي ظهرت في فيلم The Darjeeling Limited (2007)، والذي صُوّر في الهند.

تضمّن العرض إشارة مباشرة إلى الرحلة الخيالية الملونة لأندرسون في الهند، من فيلم “The Darjeeling Limited”Credit: Courtesy Louis Vuitton
ويلز بونر: عقد من استكشاف الإرث
احتفلت المصممة البريطانية غريس ويلز بونر بالذكرى العاشرة لإطلاق علامتها من خلال عرض بعنوان “Jewel”، أقيم في ثانوية Lycée Henri-IV التاريخية في باريس، حيث استكشفت فيه مفهوم “الإرث” من زوايا ثقافية وحِرفية متعددة.
استندت بونر إلى تقاليد الخياطة البريطانية العريقة، من خلال تعاونها مع خيّاطي Savile Row Anderson & Sheppard، وصانع القبعات الشهير ستيفن جونز، مما منح التشكيلة طابعًا كلاسيكيًا رصينًا.
في المقابل، أدخلت لمسة عصرية نابضة بالحيوية من خلال تعاونها مع علامة Y-3 المتخصصة في أزياء الشارع، فبرزت تصاميم رياضية مصنوعة من خامات خفيفة، وقمصان شفافة مزدانة بالأحجار اللامعة.
أما القصّات، فجاءت واسعة ومريحة، منسّقة مع أحذية “أوبرا” لامعة، بينما ازدانت السترات الرسمية ببروشات خشبية وتفاصيل لونية جريئة على الياقات والجيوب، في توازن لافت بين الأناقة التقليدية وروح الحداثة.
ألوان صارخة ورسائل بصرية
شهد أسبوع الموضة الرجالي في باريس حضورًا لافتًا للألوان الصارخة، التي لم تقتصر على الجانب الجمالي فحسب، بل جاءت محمّلة برسائل جريئة أحيانًا، أو أضفت لمسات مرحة تُعيد قراءة التقاليد بأسلوب معاصر.
ويلي تشافاريا يفتتح عرضه برسالة سياسية صادمة في باريس
في عرضه الثاني ضمن أسبوع الموضة الرجالي في باريس، قدّم المصمم الأميركي ويلي تشافاريا افتتاحًا حافلًا بالرمزية والاحتجاج السياسي، بالتعاون مع الاتحاد الأميركي للحريات المدنية (ACLU). استوحى العرض من قضية ترحيل المهاجرين الفنزويليين إلى سجون السلفادور خلال فترة إدارة ترامب، حيث بدأ بمشهد صادم ضم 35 رجلاً يرتدون قمصانًا بيضاء راكعين على الأرض، في محاكاة مؤثرة لصور مأخوذة من داخل سجن “سيكوت” العملاق، احتجاجًا على انتهاك حقوق الإنسان وغياب المحاكمات العادلة.
عقب هذه الافتتاحية القوية، عاد تشافاريا—المعروف بدمجه بين رموز الأناقة اللاتينية والرسائل الاجتماعية—إلى أجواء الماضي، مستلهمًا من تصاميم “زووت سوت” وخطوط أفلام النوار، لكن بروح جديدة. اختار ألوانًا غير تقليدية مثل الوردي الفاتح واللافندر، وأضاف معاطف ساتان بدرجات البني، كما تعاون مع صانع الأحذية الفرنسي الشهير شارل جوردان، ليضفي على العرض لمسة من الأناقة الكلاسيكية الممزوجة بالوعي السياسي.

أضفت الأقمشة الحريرية اللامعة والألوان الصيفية الهادئة بُعداً جديداً إلى التدرجات الحيادية.Credit: Shutterstock
من نيويورك إلى فرساي: تنوّع الأساليب يطبع عروض الأيام الأخيرة
في عرض “سان لوران”، استلهم المدير الإبداعي أنتوني فاكاريلو مجموعته من مشهد الكوير في نيويورك خلال سبعينيات القرن الماضي، مقدمًا أزياء تفيض بالألوان الزاهية مثل الخردلي، والليموني، واليوسفي. وقد مزج بين الطابع الرسمي واللمسة الناعمة عبر بدلات خفيفة التنسيق، أُرفقت بقمصان حريرية، وربطات عنق رفيعة، وبلوزات شيفون مزينة بفيونكات أنيقة.
أما في عرض “دريس فان نوتن”، فشهدت الدار انطلاقة المدير الإبداعي الجديد جوليان كلاوسنر، الذي قدّم مجموعته الأولى بعنوان “يوم مثالي فحسب”. حملت التشكيلة مزيجًا من الأضداد: بين الرسمي والكاجوال، والأنثوي والذكوري، من خلال تصاميم غير تقليدية مثل السارونات فوق السراويل، وصدريات حريرية منسّقة مع شورتات ملاكمة، وأحزمة ملوّنة أضفت روحًا مرحة وعفوية على العرض.
جاكوموس: من ريف بروفانس إلى بلاط فرساي
وفي ختام أسبوع الموضة، سطع نجم دار “جاكوموس”، بقيادة المصمم سيمون بورت جاكيموس، الذي قدّم عرضًا ضخمًا في قصر فرساي، عكس من خلاله أسلوبه الخاص المتأرجح بين البساطة والتأثير. الدار التي اشتهرت بجذورها البروفنسالية، نقلت هذه المرة أجواء الريف الجنوبي إلى بلاط الملوك، في عرض أُقيم داخل متاهة Orangery الشهيرة بالقصر.
وقد حضر العرض عدد من النجوم البارزين، أبرزهم الممثل ماثيو ماكونهي، وجيليان أندرسون، ولورا هارير. وكما اعتاد، نسج جاكيموس خيوطًا من سيرته الذاتية في التصاميم، مستحضرًا طفولته في جنوب فرنسا، ولكن بأسلوب ملكي ساحر.

اختتم جاكوموس الأسبوع بتأمل في ذكريات الطفولة والريف الفرنسي، نُقل إلى أجواء قصر فرساي الفخمة.Credit: Geoffroy Van Der Hasselt/Barbara Laborde/AFP/Getty Images
تميّزت مجموعة جاكوموس بلوحة ألوان ناعمة وهادئة تشبه درجات الحليب، تراوحت بين الأبيض، وقشر البيض، وتدرجات وردية باهتة. وقد تجسدت هذه الألوان في تصاميم مستوحاة من المراييل المزركشة والبلوزات ذات القصّات المشدودة بالكورسيه، مع تطريزات مستلهمة من مفارش الطاولات التقليدية.
أضفت الدار لمسات مرحة على بعض القطع من خلال استخدام الشُرّابات، وتفاصيل تحمل طابع الجنوب الفرنسي، وصولًا إلى الإكسسوارات الجلدية المصمّمة بأسلوب “خدعة العين” (trompe-l’œil)، والتي اتخذت شكل عناصر غير متوقعة مثل الثوم، الفراولة، والكرّاث.
وقد بدا العرض كمزيج بين الذاكرة الشخصية والأسطورة، إذ أوضح المصمم خلف الكواليس أن الإلهام جاء من مصادر متعددة، من بينها أفلام مارسيل بانيول، وجدّته الكبرى، وحتى السياح الإنجليز الذين شكّلوا جزءًا من مشاهد الطفولة في جنوب فرنسا.